موراتينوس، الممثل السامي لتحالف الحضارات، لـMares30: بن عيسى يمثل جوهر الدبلوماسية المغربية وهو أحد المحبين والمدافعين عن إسبانيا والعارف بسيكولوجية الإسبان
حاوره توفيق سليماني
ترجمة: د. محمد الشاربي
وفاة مثقف ووزير من طينة محمد بن عيسى جعلتني استحضر وأتذكر الكاتب الأمريكي اللاتيني، إرنستو ساباتو، ومقاله الموسوم بـ”قبل النهاية”. إن حكمة بن عيسى وعطائه الفكري منبثقان من الحكمة الإفريقية. إن موت بن عيسى هو بمثابة موت شيخ ومعلم وحكيم في بلادنا. لقد قال الشاعر الإفريقي الكبير سنغور لـ”ساباتو” في داكار: “إن موت أحد هؤلاء الرجال الشيوخ الأفارقة هو بمثابة حرق مكتبة تعج بأعمال المفكرين والشعراء بالنسبة لكم في الغرب”. “كل شيخ يموت هو مكتبة تحترق”. لقد ترك بن عيسى فراغًا كبيرا، لكنه ترك أيضًا بذورًا وإرثًا غنيا لا يمحى.
بحكم المجال الذي أشتغل فيه، خطرت ببالي فكرة الاستماع ومحاورة أحد الزملاء والأصدقاء المقربين للمرحوم بن عيسى. الشخص الأكثر أهلية في العالم الإسباني للحديث عن بن عيسى هو الدبلوماسي الإسباني المخضرم وصديق المغرب والمغاربة ميغيل أنخيل موراتينوس.
في هذه المقابلة مع Mares30، يشاركنا موراتينوس بعض أفكاره وتأملاته وانطباعاته العميقة حول صديقه الراحل بن عيسى.
إن العلاقات المغربية-الإسبانية المتميزة حاليا تعود أيضًا إلى العمل الذي قام به بن عيسى في هذا الإطار. لقد خسرت إسبانيا أحد أنصارها الذي “كان يعرف جيدا سيكولوجية الإسبان والحساسيات الإسبانية”. “بن عيسى يمثل جوهر الدبلوماسية المغربية”. مثل هذه العبارات العميقة من موراتينوس تلخص كل شيء.
كان ميغيل أنخيل موراتينوس وزيراً للخارجية والتعاون في إسبانيا (2004-2010). وتزامن مع بن عيسى خلال أربع سنوات طبعت التاريخ الدبلوماسي للمملكتين.
الدبلوماسي الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس هو حاليا الممثل السامي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة. رجل كرَّس كل وقته لتعزيز الحوار والتعاون بين الديانات والمجتمعات وكل الأمم. مهمة وهوس وهم مشترك مع بن عيسى الذي كرَّس حياته أيضا للمساهمة في تعزيز السلام والتفاهم بين الشعوب. لا يمكن لمن حضر أحد منتديات ومواسم أصيلة أن ينسى ما أقدمه بن عيسى للمغرب. في ظرف عقدين من الزمن جعل بن عيسى أصيلة “أَغْرَاوْ”، أو ملتقى الكبار، كما يقال بالأمازيغية.
السيد الوزير، أعلم أنها لحظات صعبة. في هذه الظرفية الأليمة، أتوجه إليكم بخالص التعازي والمواساة بوفاة الوزير المغربي الأسبق بن عيسى، رحمه الله. ليس لدي سؤال افتتاحي. أترك لكم الكلمة.
بالنسبة لي، إنها لحظة حزن كبيرة. من الصعب استيعاب هذه اللحظات. إن فقدان صديق عظيم، وشخصية عظيمة، ووزير عظيم، ورجل دولة عظيم في العلاقات الدولية يعتبر لحظة مؤلمة للغاية.
لكن الشيء الوحيد الذي يواسيني هو أنني تمكنت من التعلم والمشاركة والعمل بشكل مشترك جنبا إلى جنب مع الراحل بن عيسى من أجل بناء عالم أفضل، سواء على الساحة الدولية والإقليمية، أو على مستوى العلاقات الثنائية بين إسبانيا والمغرب. وإذا كان هناك وزير خارجية مغربي يمكن أن نصفه بأنه صديق لإسبانيا فهو الوزير محمد بن عيسى. يمثل بن عيسى جوهر الدبلوماسية المغربية، حيث كان يسعى دائما إلى تعزيز وتأسيس علاقة وطيدة وسلمية وشفافة وودية مع إسبانيا. لقد بنينا تلك العلاقة في آخر المطاف.
هل تقصدون أن بن عيسى كان يتمتع بموهبة دبلوماسية خاصة وكان قريبا جدا من إسبانيا؟
من الواضح أنه كان لديه بالفعل خلفية معرفية كبيرة بالثقافة والعادات والتقاليد الإسبانية. في مدينته أصيلة، التي تولى تدبير شؤونها لاحقا كرئيس للبلدية، بذل جهودا كبيرة لتحديثها وجعلها اليوم منصة مرجعية في شمال إفريقيا.
لقد كان لدى الوزير بن عيسى دائمًا نظرة مختلفة عن إسبانيا مقارنة ببعض الشخصيات المغربية الأخرى التي قد تكون لديها نظرة أخرى مغايرة تجاه جارتهم الشمالية، إسبانيا. وعندما التقينا بصفتنا وزراء الخارجية للمملكة المغربية والمملكة الإسبانية، واجهنا تحدي بناء علاقة مستقرة، لا تتأثر بالتقلبات أو الأزمات التي يمكن أن تواجهها جميع البلدان المجاورة، لأنه على الرغم من الاختلافات المحتملة، يمكننا دائمًا أن نجد نقاط الالتقاء أكثر من النقاط التي تفرقنا.
هل يمكننا القول إن العلاقات الثنائية المتميزة بين المغرب وإسبانيا اليوم بدأت خلال فترة توليكما منصب وزيري الخارجية؟
أعتقد أن اللحظات الجيدة والممتازة التي تعيشها العلاقات الإسبانية-المغربية حاليا تعود إلى العمل الذي قام به الوزير بن عيسى، وأيضا، وبكل تواضع، بفضل التعاون الذي كنت أقدمه، حيث تمكنا من إيجاد الأجندة، وقبل كل شيء، الالتزام بجعل علاقاتنا تتميز بالاستقرار والثقة المتبادلة.
اليوم يتوجب على الإسبان والمغاربة أن يشكروا ويعترفوا كثيرا بالعمل الذي أنجزه هذا الوزير العظيم، المعروف في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية… وزير يتمتع بمكانة دولية مرموقة.
إن وفاة بن عيسى خسارة كبيرة للمغرب ولمدينة أصيلة. هل يمكننا أن نقول أنها خسارة لإسبانيا أيضًا؟
بالنسبة لنا كإسبان، فقدنا أحد مدافعنا ومحبنا الذي كان يعرف دائمًا فهم سيكولوجية الإسبان والحساسيات الإسبانية. مازلنا نحتفظ بإرثه وهو الإرث الذي تم بناؤه عامًا بعد عام في منتديات أصيلة، هناك أكثر من 43 منتدى. آخر مرة حظيت فيها بالتواجد معه كانت في المنتدى الأخير، في أكتوبر 2024، حيث ودعني قائلا: “وداعًا يا صديقي”، وكانت هذه هي صيغته باللغة الإسبانية المستخدمة عندما نودع بعضنا البعض. قال لي:”وداعًا يا صديقي”، وكان هذه المرة وداعا حزينا، لكنه ترك إرثا غنيا.
السيد الوزير هل بإمكانكم أن تكشف لنا بعض التفاصيل المشتركة مع بن عيسى على المستوى الدبلوماسي أو الودي مما لم ينشر بعد؟
لدينا الكثير من التجارب، والكثير من الطرائف والحكايات، والكثير من اللحظات الحيوية التي تقاسمناها معًا، ومن الصعب جدًا تلخيصها في هذا الحوار الصحفي القصير. هناك لحظات كثيرة تعكس طابع الثقة والصداقة التي جمعتنا، ولكنني أتذكر واحدة على وجه الخصوص، وهي أزمة الهجرة في موسم 2007 و2008، حيث تمكنا بفضل علاقتنا الخاصة والودية من تحويل الأزمة إلى فرصة، وكان المؤتمر الأورو-أفريقي حول الهجرة والتنمية، الذي عقد في المغرب، بمثابة نقطة تحول في كيفية التعامل مع تدفقات الهجرة وهو التحدي الذي أصبح مطروحا اليوم في الأجندات الوطنية والدولية.
ويظل إعلان الرباط الصادر خلال ذلك المؤتمر إعلاناً مهما أنصح جميع القادة الأوروبيين والأفارقة بإعادة قراءته، ولكن قبل كل شيء محاولة تطبيقه على أرض الواقع، لأنه يحتوي على المبادئ والآليات اللازمة لإدارة وحل القضايا الأساسية الجديدة، مثل تنقل الأشخاص بين الشمال والجنوب، وبين أفريقيا وأوروبا. لقد مكنت مقترحات وتدخلات الوزير بن عيسى من إيجاد حل للحظات صعبة للغاية عاشتها الأمة المغربية والإسبانية.
هناك لحظة مثيرة وخاصة للغاية في تاريخ البلدين، ومن المؤكد أن الوزير بن عيسى أخبركم بشيء عنها لأنه كان شاهدا عليها كوزير، أقصد أزمة جزيرة “بيريخيل” (جزيرة ليلى). وبعد تعيينكم وزيراً للخارجية من طرف الرئيس ثباتيرو، نجحتما في التغلب على تداعيات ورواسب “بيريخيل”. ما الذي أخبركم به بن عيسى عن تلك الأزمة؟
نعم، لقد أخبرني عن الأزمة بكامل تفاصيلها، ولكنني لن أدخل الآن في هذه الجزئيات. لقد دافع دائما، بكل التزام، عن مصالح بلاده، المغرب، وفي الوقت نفسه كانت لديه دائما إرادة لتجنب أي مشكل يمكنه أن يؤدي إلى قطع أو تدهور العلاقات مع إسبانيا.
لقد لعب بن عيسى دورا إيجابيا وبنَّاء في إيجاد حل مناسب وأنا أعرف كيف تصرف بالتحديد حتى يتسنى لنا جميعا أن نتعلم من تلك الأزمة وأن نتمكن بعد ذلك من إقامة علاقة مبنية على الثقة، وهذا ما كان ينقص حينها، أي علاقة تسودها الثقة المتبادلة، للتغلب على المشاكل المختلفة التي يمكن أن تنشأ بين بلدين متجاورين، وهذا أمر عادي منذ القدم، حيث قد نجد ذلك أحيانا في لحظات الأزمة أو الخلاف.
السيد الوزير، لدي سؤالين فقط ونختم. قلتم إن الوزير بن عيسى يعرف جيدا السيكولوجية الإسبانية. هل تعتقدون أن في المغرب هناك مسؤولين مثل بن عيسى قادرين على فهم النفسية الإسبانية ولديهم القدرة على التعامل بعقلانية مع الأوقات الصعبة؟
أعتقد ذلك، لأننا قبل كل شيء محظوظون للغاية ولدينا شرف كبير أن يكون لدينا جلالة الملك محمد السادس، وهو أيضًا أحد الشخصيات المغربية التي تفهم وتدرك تمامًا قيمة العلاقات وكيف ينبغي أن تكون مع إسبانيا.
لقد ترك بن عيسى إرثه، وجميع الوزراء الذين خلفوه وتولوا حقيبة الدبلوماسية المغربية يدركون أيضا ما كان عليه عمل سلفهم، كوزير، لذلك، أنا متأكد من أن هناك الآن مدرسة عظيمة من المتخصصين المغاربة في الشؤون الإسبانية، الذين يتبعون المبادئ والإرشادات والتعاليم التي كان يسير عليها الوزير بن عيسى في عمله آنذاك.
عندما يموت المؤسس والعقل المدبر لأي مشروع، هناك دائمًا حديث عن المستقبل. لقد ترك بن عيسى إرثًا عظيمًا، وهو منتدى أصيلة. كيف ترون مستقبل هذا المنتدى الضروري والاستراتيجي اليوم؟
منطقيا، أعتقد أنه سيتم الاستمرار في تنظيم المنتدى. لا يمكننا أن ننكر أن بن عيسى كان بمثابة الروح والقوة الدافعة والمبدع بالنسبة للمنتدى. كان يعرف كيف يستدعي ويجمع الشخصيات من جميع أنحاء العالم. في المنتدى كنت تجد، مثلا، ممثل من التشيلي مع ممثلين أفارقة آخرين، وقس على ذلك. لقد تعلمت الكثير من منتدى أصيلة، فقد سمح لي بلقاء مجموعة من الشخصيات من إفريقيا، ومن إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومن أمريكا اللاتينية، وآسيا، والشرق الأوسط، إلخ. لذلك ليس هناك شك في أن وفاته أو غيابه الجسدي سوف يتم الإحساس به بشكل واضح.
ولكن أولئك الذين كان لهم شرف المشاركة، بمن فيهم أنا، ـ حيث منذ عام 2004 لم أتخلف عن أي موعد، باستثناء عام 2022 – ملزمون بتشجيع الفريق الذي كان يعمل مع الوزير بن عيسى على مواصلة تنظيم المنتدى.
لا يمكن لمدينة أصيلة أن تختفي، بل يجب أن تبدأ أصيلة مرحلة جديدة، ويجب أن تستمر في كونها ذلك الإشعاع الثقافي الذي يربط بين أوروبا والبحر الأبيض المتوسط وإفريقيا، وأعتقد أنه يتعين علينا جميعًا أن نتقاسم هذه المسؤولية لتقديم تكريم حي للمبدع العظيم لمنتدى أصيلة.